ذهبت مؤخراً إلى بلاد الأرض المنخفضة والتي تسمى خطأً هولندا. فهولندا هي إقليم واحد فقط من ضمن الأقاليم السبعة والتي تشكل هذا البلد المختلف جغرافياً عن طبيعة التضاريس الأوروبية مما أكسبه تميزاً وثقافة مغايرة. وكانت لي أهداف كثيرة من هذه الرحلة، فبالإضافة لتقليب دفتر الذكريات حيث كنت أتردد على هذا البلد قبل ما يزيد على الخمسة عشر عام إبٌان عملي في فرنسا وبلجيكا، فقد وضعت نصب عيني التوغل أكثر في عمق الثقافة المحلية ودراسة النسيج الإجتماعي والذي يبدو ذو سمة وسمت مختلفان!
يوجد في ( هولندا ) مليون مسلم يتقاسمون العيش ضمن ١٧ مليون إنسان مكوّنين نسيجاً متفاهماً على أصول العيش المشترك وإحترام القيم والمبادئ وعلى رقعة جغرافية صغيرة وذات كثافة سكانية مرتفعة تفوق ال ٣٨٠ نسمة للكيلومتر المربع الواحد. ومما لفت نظري وجود ٥٣٠ مسجداً وجامعاً تتميز بالجمال وحسن العمارة فبعضها بحق أيقونات معمارية تستحق الإشادة!
وتتميز البلد بكثرة الطواحين الهوائية والتي تهدف أصلاً لطحن الدقيق مستفيدة من طاقة الرياح كما أن لها هدف آخر وهو رفع المياه من القنوات المائية الكثيرة إلى مستوى البحر فالبلد بكاملها تقع تحت مستوى سطح البحر! ولهذا السبب، نجد تسميات المدن حسب السدود المقامة حولها لمنع فيضان البحر نحو هذه الأراضي المنخفضة فنجد أمستردام وروتردام وغيرها من التسميات المنسوبة للسدود المنيعة. فالمقاطعات السبعة كانت شبه جزائر متناثرة وحّدتها هذه القنوات والممرات المائية الهندسية البارعة في خليط متناغم تم تسميتة Netherlands!
ومن الملاحظات التي يلحظها الزائر هي كثرة الدراجات الهوائية إذ أن الجميع يستخدم هذه الوسيلة يوميا ويوجد ما يزيد على ٢٢ مليون دراجة في هذا البلد! وبدأت ثقافة إستعمال هذه الدراجات كردة فعل إبان إنقطاع الإمدادات النفطية عام ١٩٧٣ وإستمرت كثقافة عامة وبتشجيع من الحكومة إذ أن للدراجين الأولوية في جميع الشوارع! وكي تكتمل الصورة وتكون منتميا للبلاد ( البرتقالية )، من الأفضل أن يكون لديك قارباً تمخر به عباب القنوات والأنهر والجداول التي تتواجد في كل مكان!
وبمناسبة اللون الرسمي البرتقالي فأنه يعود لأصل تسمية العائلة المالكة هناك والمعروفة ب ( أورانيا ) وتعني البرتقالة. وبالمناسبة، فأن جميع الأسر المالكة في أوروبا هم أبناء عمومة ومتصاهرون من بعض منذ قديم الزمان!
أما قصة إنتشار الإسلام فيها فهي غريبة كذلك! إذ إنتشر الإسلام هناك عام ١٤٩٢ بطريقة طبيعية حين وصول طلائع المسلمين الهائمين في الأرض بعد مصرع غرناطة وسقوط العقد الفريد وإنفراط السبحة الأندلسية الأثيرة. فقد بدأ الأندلسيون بالدعوة إلى الإسلام في هذا البلد الجديد برغم قساوة الظروف المحيطة وفقدانهم أعز ما يملكون!
وقد كان الهولنديون، ونظراً لكونهم من شعوب الفايكنج، ناشطون في التوسع عبر القارات يدعمهم بذلك أسطولهم البحري ذائع الصيت في بداية القرن السادس عشر حتى سيطروا على دول كثيرة وفيافي شاسعة ومنافذ بحرية مهمة. وكي تصل الأساطيل الهولندية الى أعالي البحار وأسفلها، فقد قاموا بالسيطرة على نيو إمستردام ( نيويورك حاليا ) وغويانا ( سورينام حاليا ) وجنوب أفريقيا وأندنوسيا حيث دام الإحتلال لهذا الأرخبيل الشاسع قرابة ال ٣٠٠ سنة. ومن التراتيب التي لم تكن بالحسبان، أنه وأثناء المفاوضات الإنجليزية الهولندية على تقاسم المستعمرات والإتفاق على منح نيو إمستردام لإنجلترا على أن تمنح الأخبرة لهولندا منطقة غويانا في أمريكا الجنوبية والتي سميت بسورينام لاحقا، فقد قام الهولنديون بإستقدام الهنود لزراعة المجاهل الجديدة فنتج عن ذلك إنتشار الإسلام في سورينام إنتشاراً فطرياً عبر هؤلاء المزارعين. ومن المفارقات أيضاً أن يقوم هؤلاء السوريناميون ببناء عشرات المساجد في هولندا! إنها تراتيب ربانية مهما حاول البشر طمسها، تظل شاهقة ومبهرة!
وتوجد في ( هولندا ) أعرق جامعة بأوروبا وهي جامعة ليدن حيث تكتنز شتى العلوم والمعارف والإثراء العلمي المبهر. وقصة إنشاء هذه الجامعة لا تخلو من الغرابة. فقد كان الأسطول الإسباني يحاصر مدينة ليدن على مدى ثلاث سنوات عجاف أكلت الأخضر واليابس ومات خلق كثير إبان هذا الصراع الديني وتقاسم النفوذ بين البلدين. ولما صمد سكان ليدن تجاه هذا الحصار أراد الملك أن يكافئهم فخيّرهم بين إعفائهم من الضرائب لمدة عشر سنين أو بناء جامعة لهم فأختار الشعب بناء الجامعة والتي أضحت في مصاف أعظم الجامعات العالمية وخريجوها لهم المكانة العالية والقدح المعلى وتتسابق إليهم الشركات والمؤسسات! أما مركز المخطوطات الإسلامية في هذه الجامعة فهو الأكبر على المستوى الأوروبي إن لم يكن على المستوى العالمي! وقد تشرفت أثناء هذه الزيارة بالتعرف على علّامة لا يشق له غبار في علم المخطوطات وتحقيقها والذي أفنى عمره بهذا الفن الملهم الا وهو الدكتور قاسم السامرائي والذي تخرج من جامعة كامبردج عام ١٩٦٥ متسلحا بشهادة الدكتوراة في حقل مقارنة الأديان. وقد خدم هذا الجهبذ الشهم والسموأل الأريب أكثر من ثلاثين عام في رحاب جامعة ليدن وعلى رأس هرم مركز المخطوطات ذائع الصيت!
أما أفضل صورة ألهمتني فكانت لتلك الخاصة بجامع الهجرة في مدينة ليدن حيث تعانق المنارة السماء وبجانبها القبة كما الطاحونة الهوائية مما يشكل مزيجاً لافتاً لثقافات متعددة ومنصهرة في بوتقة نسيج واحد!
آه… نسيت أن أقول لكم أن الناتج المحلي الإجمالي لهذا البلد الصغير جداً يفوق الدول العربية ( ما عدا الخليجية ) مجتمعة!
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام