لما انتهى الشيخ محمد المختار من درسه في المحظرة والتي تبعد عن مكة اكثر من ٨ الف كيلو متر، توجه ماشياً نحو الشرق في رحلة استمرت عدة سنوات حتى وصل الى بيت الله الحرام راجلا!
لم يلق الشيخ تحية الرحيل على مَن معه في الحلقة ولم يبلّغ مَن حوله بنية السفر وانما اكتفى بتوجيه البوصلة نحو مكة حيث مهبط الرسالة وموئل الوحي وليكن بعد ذلك ما يكون!
قد يظن القرّاء الاعزاء ان هذه الحالة فردية او نادرة الحدوث.
دعوني اخبركم ان الشنقيطي لا يقر له قرار حتى يرتحل لطلب العلم ونشره في اصقاع المعمورة وغالباً ما تكون هذه الرحلات ذهاب بلا عودة.
يبدو ان المشهد غريب بجميع تفاصيله! فمن يهتم بالوالدين، بل من يرعى الزوجة والاطفال بعد الرحيل؟
اسئلة فطرية بسيطة تجاوزها اهل شنقيط بمشهد يدعو للدهشة البالغة.
وربما رجع البعض منهم بعد سنين طويلة فيجد الزوجة تنتظره والابناء اصبحوا مشايخ في المحظرة فكل ما بهذه الرقعة الجغرافية يدعو للتأمل والزهد بهذه الدنيا!
اخذتني جولة قبل ثلاثين سنة الى بلاد شنقيط، وهذا اسمها القديم، اما اسمها الحديث موريتانيا فيعني الرجل الاسمر باللغة الفرنسية، وكانت الجولة عبارة عن ذكريات لا تنسى ومشاهد آسرة وملهمة.
فللوهلة الاولى وعندما تطأ قدماك هذه البلاد، يجب عليك تذوق الشعر والتحدث بالفصحى ومجالسة الادباء والفقهاء والصبر في محاظر الصحراء.
فقد كنت في رحلة لشنقيط المدينة وتجوال في شرق البلاد على ” ظهر هايلكس ” حيث استغرق مشوار الذهاب فقط ٥٠ ساعة قاطعاً هذه الرمال الذهبية والفيافي الجميلة وطوال هذه الساعات الأثيرة كنت اسمع الشعر والادب والبلاغة من اهل شنقيط وكأنهم يغرفون من بئر لا قرار له!
ولا تعجب ان جلست مع شنقيطي فتحدث لك عن الشعر والفقه والادب لساعات طوال دون توقف ولا تلعثم فهذا هو سمتهم اليومي.
قررت مؤخراً معاودة الرحلة لهذه البلاد المترامية الاطراف بعد كل هذه السنين فوجدت المحاظر هي هي والدروس العلمية كما شاهدتها سابقاً والالواح بيد الصبية في منظر ذو رونق أخاذ.
فالشنقيطي يجب ان يحفظ القرآن والمتون قبل ان يصل عمره لعشر سنين والا فهذه مثلبة ومخرمة لاتغتفر!
ومن شدة الحافظة لديهم، من غير المسموح الخطأ بالتلاوة لأكثر من خمسة اخطاء للقرآن كاملاً.
اما المحظرة فأمرها عجيب وشعار القوم في ذلك ” من المحظرة الى المقبرة ” كناية عن استمرار رحلة العلم والتعلم مدى الحياة.
والمحظرة هي المدرسة بنظام التعليم العتيق والتي تركز على العلوم الشرعية ولا يدخلها الا حفظة كتاب الله حيث يمكثوا ببعض المحاظر اكثر من ١٧ سنة كي يحق لهم نشر العلم بعد ذلك!
واكثر شيء اثار استغرابي في بلد المليون شاعر هو معرفتهم ببعض معرفة وثيقة حتى لا تكاد ترى شخصاً لا يعرف الجميع من اهل بلده!
فقد اختبرتهم بذلك بعد ٣٠ سنة من الانقطاع وطلبت منهم رؤية شخص رافقني في الرحلة الاولى واسمه” اقليقم “. وعندما تذكر اسم اقليقم في بلاد شنقيط فكأنك تذكر اسم محمد او عبدالله لكثرة تداول هذاالاسم. فما لبثت غير ساعة الا واقليقم امامي علما بأن الرحلة الاولى لم يكن بها اية وسائل تواصل البتة!
والاغرب من ذلك ان اقليقم هذا قام بسرد جميع القصص والمناقشات التي دارت بيني وبينه اثناء الرحلة قبل ٣٠ سنة وكأنها حدثت البارحة!
تسمرت امام هؤلاء الناس الافذاذ الذين يلتهمون العلم التهاماً ويقرضون الشعر بلا توقف!
وعودة لموضوع الترحال لطلب العلم ونشره، فلولا ان المجال يضيق بنا لذكرت لكم قصصاً هي للخيال اقرب ولايستطيع فهم ذلك الا اهل شنقيط الذين جُبِلوا على هذه المآثر.
فكل بقعة في الارض تشهد لنشرهم العلم دون ملل او كلل.
فكم من محمد المختار وكم من محمد الامين ومحمد الحبيب وكم وكم ممن نجدهم في حلقات الحرمين ودروس العلم في كل بقعة من الارض؟
خواطري عن هذا البلد لا يكفيها مقال بل لا تكفيها مجلدات لذكر مناقب القوم وشهامتهم وكرمهم وحسن معشرهم وهذه من فوائد الترحال في بلاد الله الواسعة.
ولا يزال الشنقيطي يرقب اللحظة ليتوجه شرقاً لنشر العلم فهذه رحلة المشتاق!
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام