اليوم ٣١ تموز ٢٠١٨ هو آخر يوم عمل لي في شركة أرامكو السعودية بعد رحلة عمل إستمرت طيلة ٢٨ سنة في هذه المدرسة الحياتية المتألقة بل الأكاديمية المبهرة! فعند تخرجي من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، لم تكن أرامكو الخيار الأول لدي. فقد ذهبت بملفاتي ( العلّاقية ) وشهادتي لكل مكان ما عدا هذه الشركة! وأثناء هذا الخضم وأنا في طريقي للرياض للبحث عن وظيفة، حدثتني نفسي أن أمر بمكتب التوظيف في أرامكو لأعطيهم ملفاً من هذه الملفات التي كنت قد نسخت منها الكثير ووضعتها في السيارة لأوزعها على الشركات حيث لم يكن هنالك وقتها التقديم عن طريق الأيميل أو التقديم عن طريق النت وما شابه ذلك من المصطلحات الحديثة. وياللمفارقة، فقد كانت أرامكو أول شركة تتصل بي للمقابلة الشخصية! ثم تماديت بالإبتعاد فقلت لعلي أتوظف بها لمدة ستة أشهر ثم أرحل عنها! فكانت هذه هي البداية! فقد إلتحقت بأرامكو في الهزيع الأخير من عام ١٩٩٠ ومنذ ذلك الحين وأنا أرتشف من هذا المعين الآسر وأنهل من معارفه الأخّاذة برحلة يومية بهيجة!
واليوم وأنا أخطٌ خواطر مررت بها في هذا الكيان العظيم، يكاد اليراع أن لا يصدق أن هذه الصفحة قد طويت بل يرفض أن يعترف بذلك! فهي مواساة من نوع خاص ومتلازمة أتلظى بلهيبها كلما أقترب موعد الرحيل!
فهذا الكيان لا يوفيه حقه مجرد مقال توديعي فالقصة طويلة والسيرة التي لم تروْ أطول وأعمق.
ولعلي أبرز بعضاً ونزراً يسيراً من هذه المناقب لهذه الشركة التي يزدان بها الوطن وتتلألأ بها أيامه ولياليه.
فقسم المواطنة والذي يُعنى بالمبادرات المجتمعية قام بتحويل التبرعات التقليدية لمشاريع تنموية مستدامة وبالذات في المناطق النائية والتي بدأت تؤتي ثمارها على هيئة أسر منتجة وبأسلوب عصري وإحترافي رائع. فقد تم الالتفات لمناطق المملكة المترامية الأطراف وتحويل التحديات الى فرص كبيرة وواعدة ضمن قصة ملحمية مع الجمعيات الخيرية العاملة مما ساهم ببناء طاقات هذا الجمعيات وخلق فرص عمل كبيرة للشرائح المستفيدة.
أما تجربة برنامج ( واعد ) فحُق لأرامكو أن تبتهج بها. فهذا البرنامج قد ساعد رواد الاعمال من الشباب والشابات بتفجير طاقاتهم وبدء أعمال ريادية غير مسبوقة مما ساهم في دفع عجلة التطوير المجتمعي.
وتأتي حكاية حماية البيئة في هذه الشركة والتي ليست كالحكايات! فيكفي أن هناك المئات من أقدر مهندسي حماية البيئة السعوديين وأولئك الذين تم إستقطابهم من جميع أنحاء العالم ليس لهم هدف الا حماية البيئة! وللمعلومية، لم يحدث بتاريخ أي شركة نفطية في العالم أن أستثمرت مليارات الريالات للحفاظ على البيئة البحرية وتكوين جزر إنتاج صناعية كي لا تتأثر الجزر المرجانية كالتي خاضتها ارامكو في ملحمة حقل منيفة البحري! فقصة منيفة لوحدها تسطر بشأنها الروايات والعبر وتروى للاجيال بشكل مبهر ولافت!
أما مئات المدارس التي بنتها أرامكو فتضاهي أرقى مدارس النخبة العالمية. وتأخذ الشركة على عاتقها جميع الاعمال الخاصة بهذه المنشآت من صيانة ونظافة حتى يخيل للزائر أن هذه المدارس قد تم بناؤها للتو بالرغم ان بعضها ينيف عمرها على الأربعين سنة!
وتظل لمسات أرامكو في تخطيط الأحياء الجديدة وبطريقة معمارية رائعة ساكنة في قلب كل من سكن هذه الأحياء.
أما طريقة تأهيل المقاولين وبالذات السعوديين منهم ورفع المحتوى الصناعي المحلي عبر مبادرة ( إكتفاء ) فتعتبر أيقونة عطاء لرخاء الوطن. ولا يخفى على الجميع إبراز ارامكو لرجال الاعمال الأوائل وخلق فرص واعدة لهم في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى حتى اضحوا من قادة الاعمال على المستوى العالمي!
ويأتي مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي ( إثراء ) كجوهرة تاج معرفية والذي سيساهم في تعزيز المحتوى المعرفي كما سيكون رابطاً للوشائج الثقافية مع أصقاع المعمورة.
وأكاد أجزم أن لا شركة في العالم ترسل موظفيها قبيل تقاعدهم بأيام لدورات تدريبية في الشرق والغرب كما تفعل ارامكو حتى أضحت عملية التدريب والتأهيل ثقافة شركة وليست متطلبات وظيفة!
ولعلي أعرّج على مثال نادر! فالاهتمام بالموظف في هذه الشركة ليس فقط عندما يكون على رأس الوظيفة بل يتعدى ذلك بكثير. فأي شركة بالعالم، في الغالب، تخف صلة الموظف بها بعد التقاعد. هل تعلمون ان ارامكو تتكفل بمبالغ مجزية وبرواتب لأرملة الموظف وذويه حتى بعد مماته بسنوات طويلة بعد التقاعد وبعد إحالته لنظام التأمينات الاجتماعية! هذا هو تعريف النبل والوفاء!
أما ما تعلمته من هذه الشركة المعطاءة فيضيق المجال بذكره ولعلي أختصره بالمحاور التالية:
– علمتني الإنضباط في المواعيد وإحترام الوقت وأداء المهام حسب الجدول الزمني المرسوم
– وعلمتني العمل بروح الفريق فالعقول تلاقح بعضها بعضا
– وعلمتني أن تطوير الإنسان هو صلب عمليات التشغيل حتى في أحلك الظروف وتدني الميزانيات
– وعلمتني معنى الإلتزام بالكلمة وموثوقية الأداء
– وعلمتني كيف أخطط وكيف أنفذ وبأقصى درجات الإحترافية والمهنية
– وعلمتني أن السلامة هي رحلة حياة وممارسة يومية
– وعلمتني أيضا أن العبرة بأداء المطلوب أما النتائج فتأتي لاحقاً
– وعلمتني أن الإحتكاك بالآخرين وتقبل الأراء المختلفة والإستفادة منها هي وقود النجاح
– وعلمتني أن الجودة هي ليست ترف فكري وإنما ضرورة من ضرورات الحياة
– وعلمتني الأخذ بالإحتياطات وأن تكون دوما لدي خطط بديلة
– وعلمتني أن الموظف ومن يعول هم أغلى شيء لديها
– وعلمتني أصول التطوع وبناء الفريق وخدمة المجتمع
– وعلمتني السعي المستدام وعدم الركون لموقع ما أو لنتيجة ما، بل أظل متحفزاً على الدوام
– وعلمتني أن الدوام مهم ولكن الأهم هو إنجاز الأهداف المرسومة
– وعلمتني أن أزكي ما تعلمته منها لمجتمعي وبلدي وللإنسانية
– وعلمتني
– وعلمتني
– وعلمتني
– ويضيق المجال بما علمتني!
سأشتاق لهذه الشركة بل الأكاديمية بشكل كبير.
– سأشتاق لكل من عملت معهم طوال هذه السنين
– سأشتاق لهدير المحركات ولقرقعة التوربينات الغازية في المصافي ومعامل الغاز
– سأشتاق لأزيز الهليكوبتر وهي تقلع وتحط كل برهة في المنصات البحرية
– سأشتاق لطريق السفانية وتناقيب والعضيلية والحوطة وأبقيق والفاضلي وغيرها من الطرق التي كنت أسلكها يوميا
– سأشتاق لشيبة ورملها اللاهب ومعاملها التي حولت الربع الخالي إلى الربع الغالي
– سأشتاق لمصفاة الرياض وينبع ورابغ ورأس تنورة وذكريات مصفاة جدة
– سأشتاق لأحياء السكن في الظهران ورأس تنورة وتناقيب وأبقيق والتي مكثت بها سنوات طوال
– سأشتاق للأبحاث العلمية وبراءآت الإختراع
– سأشتاق لمكتبات أرامكو الزاهرة والزاهية
– سأشتاق لخطوط الشرق والغرب من شدقم حتى ينبع حيث قضيت بها أياماً متميزة
– سأشتاق لفريق المواطنة والذي غيٌر مفهوم العمل الخيري والإجتماعي بصورة مستدامة لافتة
– سأشتاق لهذه الشركة بكل جزئياتها!
– سأشتاق وسأشتاق وسأشتاق!
ولأن الشوق إختلط بمراسم الرحيل، أقول وداعاً أيتها العزيزة!
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام