توفيت والدتي يرحمها الله وهي إبنة تسع وثلاثين ربيعاً وكنت حينها إبن أربع سنين. وكانت والدتي – مثل بقية النسوة آنذاك – مسؤولة عن كل شيء في البيت! فهي المربية وهي الحاضنة وهي السائسة وهي المعلمة ليس فقط لأهل بيتها بل لكامل محيطها في رحلة عنوانها الصبر والمصابرة على لؤاء الحياة ومرتقياتها الصعبة.
كان قرار والدي يرحمه الله حين وفاة والدتي صارماً ومباشراً بأن الأخت الكبرى يجب أن تترك المدرسة فوراً لترعى كل شيء! الرعاية كانت تشمل الطبخ لعدد من الأنفس يفوق العشرة وتنظيف بيت كبير تعصف به الرياح من كل جانب، والعناية بالماشية وغيرها من الحيوانات التي كانت مصدر غذاء لنا بالإضافة الى تربية الصغار والتنقل لصلة الأرحام وغيرها من المهام التي تعجز المرأة الحديثة عن أداءها. الأخت الكبرى هذه كان عمرها ١٥ سنة لما إستلمت كل هذه المهام العظام! وللمعلومية، أستمرت هذه الأخت بتعليم نفسها تعليما لا منهجيا في رحلة شاقة وذات تحديات جسام!
تزوجت الأخت الكبرى بعد ثلاث سنوات، فأخذت الأخت الصغرى الراية هذه المرة وتركت المدرسة إضطراراً وأبلت بلاءً حسناً حتى تزوجت هي الأخرى بعد أربع سنوات. وللمعلومية، فهي في رحلة طلب العلم ومكابدة التعلم ونشر ما تكتنزه من معارف منذ ذلك الحين!
كان عليّ لزاماً حينها أن يكون لي دور في هذا المعترك الكبير! فكنت أضطر للنهوض باكراً كل يوم لجلب الأغراض المعيشية من لحوم وخضروات وخبز وغيرها إذ لم تكن البيوت في قريتنا مجهزة بالثلاجات والأجهزة الكهربائية وإن وُجدت فالأصل بالكهرباء أنها مقطوعة! فكل شيء يجب أن يكون طازجاً وبنفس الْيَوْمَ وإلا فمصيره التلف! وكان أكبر عيب أن تشرق الشمس وأنا نائم! كنت أقوم بكل هذا وأنا إبن ثمان سنين وبنفس الوقت كان يتوجب علي الذهاب للمدرسة واللعب في الشارع والتمتع بكل معاني الحياة الطفولية ومباهجها. ولَم أذكر أن مرّ علينا مصطلح الأرق أو الضجر في تلك البيئة مطلقاً فكنا ننام بمجرد أن نرمي رؤوسنا على الوسائد!
وإضافة لكل ما سبق، أوكل لنا الوالد يرحمه الله مهمة تجارية شاقة! فكنا نتناوب على محل الأقمشة الذي نملكه ونتقاسم الأعمال وبنظام الورديات. فالوالد يقابل الزبائن ويختار لهم الأقمشة والأخت عليها مسك دفاتر المحل والتأكد من كل قرش وإلا فالمسؤولية كبيرة! أما دوري فكان ترتيب الأقمشة بعد نثر الزبائن لها وبسرعة فائقة لا تقبل البطء! كما أوكل لي الوالد مهمة الإيداعات والسحوبات لما كان عمري تسع سنين. وللمعلومية، لم نكن نتعامل مع البنك إما تحريما أو عدم ثقة! فكانت الأمور المالية حينذاك تقوم على الطرق القديمة من مقاصة ومقايضة وحفظ وغيرها بمنهج يمارس يوميا وعنوانه الثقة!
ولما بلغت العاشرة من العمر، أصدر لي الوالد جوازاً خاصاً بي وقال لي إنطلق ولا تسألني!
لعلكم أيها القرّاء الأعزاء تتسائلون؛ وما دخلنا بكل هذا؟ ولماذا هذه الروايات الدرامية؟ ومن حقكم أن تتسائلوا. دعوني في هذه السانحة أن أنوّه بأن آباءنا لم يتخرجوا من أرقى الجامعات والمعاهد التربوية ولَم تتح لهم الفرصة لينهلوا من العلوم مثل ما فعلنا فهم كانوا في شظف من العيش وفِي أتون معارك مستدامة لتوفير اللقمة لمن يعولون. ورغم كل هذا، كانت تربيتهم فعّالة وناجعة وواقعية وذات أثر وبعيدة عن كل تعقيدات علماء النفس والإجتماع. هذه التربية أثمرت وأينعت أزهاراً ورياحين وأنتجت ذرّيات تعتمد عليهم الأوطان.
إنها دعوة للعودة للجذور وترسيخ القيم وإعطاء النشء الثقة بالنفس وزجهم في تحديات كبيرة وإقحامهم في مرتقيات صعبة. إن طريقة تربيتنا لذرياتنا – حتى أصبحنا نخاف عليهم من النسمة العابرة – لن تنتج أجيالاً تعتمد عليهم الأوطان بل عالة حتى الثمالة وترهل حتى التقزز والإشمئزاز!
كل يوم أتنهد وأتحسر لما أرى الأطفال حبيسي الأجهزة الذكية ولا يتنفسون الهواء الطلق ولا يلعبون مع الحيوانات الأليفة ولا يملكون أي مهارة ودائما في ضجر وملل وطلبات ترهق كاهل الوالدين. وَمِمَّا يزعجني أكثر أن هؤلاء الأطفال ينموا ويترعرعوا في كنف الأم البديلة حتى أضحت شخصياتهم هزيلة ومهزوزة فلا هم ممن يرحبوا بالضيوف ولا هم مِمَّن يجرأوا لإلقاء كلمة أمام محفل ولا هم يصلون أرحامهم أو حتى يكترثوا بأقربائهم ( إلا من رحم الله ).
يتخرج الأبناء المدللون والمدلعون من الجامعات ويسعى أهلهم لتزويجهم ويستمروا بالصرف عليهم وشراء مقاضيهم اليومية وتربية إبناءهم حتى يصبحوا آباءاً بالوكالة! وتتخرج البنات المترفات ويتزوجنّ وهنّ لا يملكنّ ألفبائيات التدبير المنزلي فسرعان ما يرجعن لبيوت آباءهنّ مطلقات، ففي الغالب لم يتعودنّ على تحمل المسؤوليات وفراق نطاق الراحة في بيوت أهلهنٌ!
وأخيرا” أيها القرّاء الأعزاء، إليكم هذه المعادلة الصعبة وعليكم الإختيار بين مرّين:
أقحموا أبناءكم بالتجارب والتحديات وشدٌوا عليهم في طفولتهم، سيستريحوا بقية عمرهم.
أو، متّعوا أبناءكم ودللوهم ودلعوهم وأفرطوا في حمايتهم في طفولتهم، فسيتعبوا طيلة عمرهم.
والأمر لا يخلوا من إستثناءآت، ولو خُليت خُِربت، والكياسة سيدة الموقف، وكان الله بعون الجميع!
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام