حنين ووفاء
اليكم هذه القصة التي حدثت لي قبل سبع سنين ولا تزال فصولها متقدة. وأستميحكم عذراً لإختصار تفاصيلها الكثيرة في ثنايا هذه الحكاية الدرامية. وحتى السطر الأخير من هذه القصة، ستظل النفوس مشدودة لمعرفة المزيد.
فقد اخذتني جولة عمل عام ٢٠١٥ الى المغرب حيث كانت الزيارة الاولى لي لهذا البلد الآسر بتاريخه العتيد وثقافته المتجذرة وطيب اهله وسعة افقهم واطلاعهم. اما المساجد في المغرب فحكايتها تسلب الالباب ليست لعمارتها الايقونية فحسب، وانما للقصص الأخاذة المرتبطة بها.
كانت مهمة عملي في مراكش، وقد أقمت في نزل واسع الارجاء لا يحتاج المرء الى ان يغادره، نظراً لضخامته وسعة حدائقه وتوفر ما يحتاجه المسافر من وسائل الراحة، مما جعلني التزم هذا المكان طيلة ايام العمل. وفي اليوم الأخير وقبل مغادرتي، سألت نفسي؛ كيف اغادر هذا البلد ولم اطلع على معالمه التي يقصدها السواح من كل مكان؟ كانت لدي سويعات قليلة متبقية، فعزمت تخصيص هذه السويعات لزيارة اهم معالم هذه المدينة المرابطية الملهمة والتي اسسها ابو بكر اللمتوني.
خرجت من الفندق الكبير طلبا لسيارة اجرة فأشار الي الموظف بأن استقل سيارة اجرة تقودها امرأة ولما سألته عن سبب هذا الاختيار ذكر لي بأنها تنتظر منذ فترة طويلة ولم يتسن لها خدمة أي زبون فأستجبت لهذا الطلب مذعناً.
وجدتُ هذه السائقة سيدةً وقورةً لم تخف عوامل الكد والتعب والسعي الدؤوب آثارها على وجهها السمح. وكما جرت العادة عند ركوب الزبون سيارة اجرة، يبادره السائق بالسؤال عن وجهته فأخبرتها بأن لدي سويعات قلائل وأود استغلال هذا الوقت القصير لزيارة اقدم مسجد واعرق مكتبة وأبهى مبنى ايقوني! لم تتمالك نفسها ومسكت فرامل بشكل لافت والتفتت الى الوراء وسألتني عن أسمي فأجبتها بإقتضاب ثم سالتني مرة اخرى باستغراب عن وجهتي وسبب زيارة هذه الاماكن فهي لم تعتد أن يُطلب منها مثل هذا الطلب!!
بعد ذلك ذكرت لي اسمها وعدد السنوات التي قضتها في هذه المهنة الشاقة التي لا يزاولها عادة الا الرجال، ثم اخذتني الى مسجد الكتبية العريق واعطتني رقم التواصل معها كي اتصل بها عند انتهاء زيارة المسجد لزيارة الوجهة الاخرى وهكذا تمت زيارة معظم المعالم في وقت قياسي. ثم ارجعتني للفندق وافترقنا.
وكعادتي، اتصل على اهل البلد في اي حاجة تطرأ لي، فقد كان رقمها من ضمن الارقام التي اتناولها للسؤال او الطلب وتتم الاستجابة عادة بوقت قياسي.
وفي عام ٢٠٢٠ قررت ان ازور هذا البلد مرة اخرى وكان على رأس الاولويات زيارة الطفلة الاستثنائية التي فازت في مسابقة تحدي القراءة العربي فقد الهمتني قصتها وطريقة سردها للنصوص وارتجالها للكلمات بالرغم من حداثة تجربتها وصغر سنها.
بحثت عن هذه الطفلة في كل مكان وسألت عنها كل المعارف فلم اهتد لمكانها وكأني ابحث عن ابرة في كومة قش! ثم حدثتني نفسي لماذا لا اسأل المراكشية صاحبة التاكسي التي اقلتني قبل خمس سنوات فلربما يكون عندها الجواب؟ حالما سألتها برسالة اتاني منها الجواب دقيقاً عن عنوان الطفلة ورقم هاتف والدها وكل المعلومات التي كنت ابحث عنها. ذهبت للطفلة في مدرستها مع ابيها الذي اكرمني بزيارة بيته وارتجلت هذه الطفلة خطبة لا تزال كلماتها ترن في فؤادي عن تقديرها لهذه الزيارة.
وبعد انتهاء الزيارة وددت شكر سائقة التاكسي المراكشية التي دأبت على ارسال بعض الاستفسارات لها طيلة السنوات الخمس عن طريق الرسائل ولم اكلمها ولو لمرة واحدة. رن هاتفها واذا برجل يجيب، فسألته اهذا رقم السيدة المعنية؟ فقال نعم فسألته ومن تكون انت؟ فقال أنا اخوها فسألته عن احوالها كي اشكرها لحسن صنيعها فقال لي ان اختي ماتت قبل اربع سنين!!
في الحقيقة، امتقع وجهي حتى لم تعد به قطرة دم واحدة وحُبست انفاسي ازاء هذا الخبر الصادم وتحشرجت الكلمات!! ثم تمالكت نفسي وقلت له ولكني اقوم بمراسلتها بين الفينة والأخرى طلباً لمعلومة اوحاجة؟ فقال نعم انا كنت استلم رسائلك وأرد عليك وابحث لك عما تريد!! بدأ المشهد الدرامي يتكونامامي وكأني امام لوحة سريالية لا اكاد افهم منها شيئاً وهي تمسك بتلابيب عقلي مع محاولاتي البائسة للتماسك!! فسألته سؤالاً اخيراً لماذا فعل كل ذلك من اجلي فقال وفاءً لأختي التي ماتت بشكل مأساوي وكي لا يضيق صدرك، فقد لعبت هذا الدور طيلة هذه السنوات ولم اخبرك!!
يا الهي…. المشهد كان عصي الفهم بالنسبة لي. ثم ذكر لي جميع طلباتي والتي كانت تتعلق بالمساجد والمباني الايقونية والمبادرات الثقافية وكيف كان مسروراً لتلبية جميع الطلبات!! عندها قررت ان انهي المكالمة المؤثرة لأني للحق لم اكد اتمالك سماع بقية التفاصيل. ثم فوجئت بنفس اليوم ان اخيها أضافني في مجموعة دردشة تضم معارف المرحومة حيث يستذكرون من خلالها مناقبها وذكرها الحسن وكيفية الاستمرار في مواصلة الاعمال الانسانية التي أنشأتها. وتبين لي انها لم تكن مجرد سائقة سيارة اجرة وانما كانت أمّاً رؤوماً وكياناً مباركا، ينثر الخير اينما اتجه!!
سبحان الله! هل كانت مصادفة ان اترك سيارات الاجرة المصطفة امام الفندق المراكشي قبل خمس سنوات لأركب معها؟ انها تراتيب القدر الذي يسوقه رب العالمين لتنسج منه قصة ملهمة لم اسع لتأليفها ولم ادر عن تفاصيلها.
يا ترى، كم في هذا العالم من تراتيب قدرية يقف المرء امامها حيرانا؟ وكم منامثال سائقة الاجرة هذه ولم نعلم عنهم؟ وكم من اخ تقمص الدور واستمر بنفس العطاء؟ وكم منمصادفات لم نستطع فك طلاسمها مدى الزمان؟ وكم وكم وكم؟ ولعلي اُفرد كتاباً خاصاً عنوانه ” هل كانت مصادفة ” لجميع المواقف ذات العبر والتي تعرضت لها من خلال تجوال وتجواب اثير في اصقاع المعمورة بهدف استنساخ التجارب وعمارة الارض ونثر السعادة وتقريب بني البشر.
ايها القراء الاعزاء:
لم اذكر لكم اسمها، فأسمها هو عنوان هذه المقالة، ولم اذكر اسم عائلتها هذه العائلة المجيدة التي أسست مدينة فاس ولم اذكر انها من نسل خير الانام محمد عليه الصلاة والسلام!
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام