تلى عليّ صاحبي مايلي:
قبل يومين أكرمني أحدُ المشايخ الفضلاء باتصالٍ هاتفي بعد غـَيبةٍ طويلة (غيبة أبدان لا غيبة أرواح) ولما نشدته عن حال أبحاثه، واستفصلتُ خبر قراءآته (وهكذا هي عادةُ حديثنا أن نفيض في ذكر شؤون العلم ونضرب عن الناس الذكرَ صفحاً) استعبرَ بأسى قائلاً: لقد غشا عينيّ ألم أسهدني وأحاطَ بهما وجع قلقلني وما أحسبُ ذلك إلا من توالي النظر في شاشات الحاسب عندما كنتُ أصاليها ساعاتٍ طوالاً لبحث مسألةٍ في برامجه الموسوعية، أو لإلقاء موعظةٍ في شبكاته العنكبوتية. ثم أردفَ متنهداً: وهذا أنا منذ أسبوع كامل لم أكتحلْ بمطالعةِ كتابٍ، ولم أجرد سيفَ نظري لمبارزة الحروف. لكَ الله أيها الشيخُ الجليل فآفة الانقطاع الجبري عن القراءة مصيبةٌ عند النابهين أمثالك لا تضارعها مصيبة، وألم العين من جلائل الأدواء. والشابُّ إذا كان عزباً قالوا له : لا همّ إلا هم العرس، ولا وجع إلا وجع الضرس. أما إذا ركبَ سفينةَ الزواج، وشرب من آنية العرس، وتسربل برداء العيال فلابد من تجديد المثل له ليصبح: لا همّ إلا هم الدَّين، ولا وجعَ إلا وجع العين!!
نعودُ لشكاية الشيخ وتحسراته، وهي عندي من دلائلِ عقله وأماراتِ نجابته وقد قال أحدهم قل لي مما تشتكي أقول لك من أنت!! فمنْ اشتكى من شيء غلب عليه الاهتمامُ به، والتصق بعقله العنايةُ بتحصيلِ أسبابه. والشيخ هنا يشتكي تعذّر متابعته للبحوث وتعسّـر منادمته للكتب. ومنّا من يشتكي قلة زاده، أو يندب غياب لهوه، أو يشجب ترادف فراغه وكلٌ يغني على (ليلاه) . فأهلُ العزائمِ لا تجزعهم المصيبة في (الدنيا) ولكن تؤلمهم الفاجعة في(الدين) ولا يروعهم البلاء في (أبدانهم) بقدر ما يمضـّهم البلاء في (ألبابهم).
وإليكم قصصا وعبرا:
فقد قام الإمام إبن القيم الجوزي بتأليف كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) والذي يحوي خمسة مجلدات على ظهر الناقة وهو مسافر! ولم تكن معه أية مصادر ينقل منها ما يحتاج إليه من أحاديث وأقوال وآراء تتعلق بمواضيع الكتاب، ومع ذلك فقد ضمن كتابه أحاديث نبوية من الصحاح والسنن والمعاجم والسير، وأثبت كل حديث في الموضوع الذي يخصه. مع العلم أن ابن القيم كان يحفظ مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي يضم أكثر من ثلاثين ألف حديث.
أما الإمام إبن الجوزي صاحب (صيد الخاطر) فكان إعجوبة الزمان في غزارة التأليف وهو (حسب ظني) من أشد الناس تطبيقا لمبدأ حفظ الوقت في علم الإدارة الحديث Time Management فقد كان لا يأكل إلا الطعام الليّن حتى لا يستغرق وقتا طويلا في مضغ الطعام. وكان يستغل الوقت مع الضيوف الذين يتوافدون عليه بأن يطلب منهم تبرية الأقلام ونجهيز المحابر وهم يتحدثون من باب زيادة الإنتاجية وحفظ الدقائق الغالية.
أما إبن قتيبة الدينوري فكان أيقونة زمانه. وأود ترك مساحة لكم أيها السيدات والسادة لمعرفة هذا الجهبذ ولا بأس من إستشارة الشيخ (قوقل)!
وقد كان الشيخ صالح الحصين رحمه الله بعد أن ضعف بصره يأخذ المنظار ويحاول القراءة كما كان في أيام شبابه ثم لا يلبث أن يدركه العناء فيلقي بالكتابِ والمنظارِ مسترجعاً حزيناً.
وذكروا عن شكيب أرسلان أنه كان في سباقٍ محمومٍ مع زمن صحته وشبابه فكان يكتبُ حتى عطبتْ يده.
أما أبو بكر الرازي فقد كان في أول أمره مغنياً بالعود، ثم عزمَ على تثقيف نفسه وتدارك عمره، فكان يصارع وقته ليلحق بركبِ العظماء فقرأ حتى عمي، وكتبَ حتى انخلع كتفه!!
قبلَ أن يختم الشيخُ الجليل مكالمته قال لي عبارةً طافتْ بحنايا الروح واستقرتْ في سويداء القلب: إقرأْ قبل أن لا تستطيع أن (تقرأ)
فالأمثلة السابقة من الجهابذ كان يومهم كيومنا وإلتزاماتهم كإلتزاماتنا (إن لم تكن أكثر) ومشاكلهم كمشاكلنا (إن لم تكن أقسى). إذن مالفرق؟ بل لنا قصب السبق نظرا لسرعة حصولنا على المعلومة (دقائق معدودة مقابل أشهر كثيرة في بعض الحالات) مع توفر وسائل التواصل والرفاهية المطلقة.
وفي هذا السياق وكي يرجع للكتاب عزّه وتكتحل أعيننا بالمحابر ويرجع للورّاقين مجدهم إذ هم في شوق للقيانا، أرجوكم لا تلمسوا جهاز الجوال (أو بقية الأجهزة الذكية) أكثر من خمس مرات باليوم لتتصفحوا تويتر وتتراسلوا بالواتس أب وتغوصوا في أتون الفيس بوك وتسرفوا بإهدار الوقت في اليوتيوب. هذا فضلا عن قراءة الإيميل والرسائل النصية وغيرها من بحور هوجاء متلاطمة تسبب ضجيجا هائلا آناء الليل وأطراف النهار وتسلبنا التركيز وتعزلنا عن المجتمع لنعيش رويدا رويدا ضمن عالم إفتراضي لا نخرج منه البتة.
وعوضا عن ذلك، إقتربوا من الكتاب وتعطروا بروائحه الزكية وأجعلوا الكتب هي بضاعتكم الرائجة ووزعوها داخل البيت والمكتب لتكون على التسريحة وقريبة من طاولة الطعام وحاضرة عند السرير وفي كل أرجاء المنزل.
ليكن حديثنا ماذا قرأنا وماذا سنقرأ وما هي الفوائد. فالقراءة ومصاحبة الكتب ترتقي بصاحبها وتنقله نقلة نوعية فتنعكس على حياته وأسلوبه ورقي أخلاقه.
أتمنى أن لا نسمع عبارة (أمة إقرأ لا تقرأ) ففي ذلك جلد كبير للذات وإحباط لأمة لديها الكثير لتقرأ وتقول وتفعل وتبني الأوطان وتخدم الإنسان.
الكتاب يناديكم ويصيح بكم (أرجوكم إقرأوني) فهل من مستجيب؟ أم تكون صيحة في واد ونفخة في رماد؟
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام