شيدا صانعة الأمل
بقلم/ أحمد صالح الرماح
كنت في جولة مؤخراً ببلاد البلقان وبالأخص في البوسنة والهرسك. وتأتي هذه الجولة تقليباً لدفتر الذكريات حيث كنت أتردد على هذه البقاع مع المنظمات الإغاثية إبّان الأزمة في الفترة ما بين الأعوام 1992 حتى 1995. وكانت لي بالطبع أهداف لهذه الرحلة غير الذكريات القديمة. فقد وضعت عدة أولويات وعلى رأسها زيارة السيدة شيدا. فمن تكون هذه السيدة يا ترى؟
في عام 1992م انطلقت أولى شرارات الحرب البوسنية التي حدثت بين البوسنة والهرسك ذات الأغلبية العرقية من البوشناق المسلمين من جهة، وبين يوغسلافيا وكرواتيا ذات العرقية الصربية والكرواتية، استمرت تلك الحرب حتى 1995 وراح ضحيتها أكثر من 38200 مدني أكثرهم من المسلمين البوسنيين، إضافة إلى مقتل حوالي 57700 جندي، وكانت حرب إبادة حقيقية.
في ظروف تلك الحرب عزلت العاصمة سرايفو من مختلف الجهات، وأصبحت الدولة فيها محاصرة من مختلف الجهات، ولم يتمكن قاطنوها من الخروج منها، كما لم يتمكن الأهالي الذين في المدن الأخرى من مساعدة العالقين فيها وإمدادهم بالمؤمن والأدوية، وعلى الرغم من مطالبة الدولة البوسنية قوات التحالف الدولي (الناتو) التدخل من اجل وقف تلك المجازر، إلا أن تلك القوات لم تتدخل بل اختزلت دورها بالمفاوضات التي لم تكن تغير أي شيء على ارض الواقع، ووجد البوسنويون أنفسهم يفقدون المؤن والذخيرة، وعندما أصبحت النهاية وشيكة ابتكر أحد المقاتلين البوسنيين فكرة تمكنهم من تمديد مدة التحمل والصمود حتى يتم التوصل إلى اتفاق محدد، أو حتى يتم مساعدة العالقين في سرايفو على الحياة في تلك الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب.
الفكرة كانت حفر نفق تحت سراييفو. فقد عمد الجنرال راشد صاحب فكرة النفق إلى استشارة بقية القيادات من اجل تنفيذ الفكرة، وبالفعل تم التواصل مع احد أفضل المهندسين المعماريين البوسنيين وهو برانكوفيتش نجاد الذي عمد إلى دراسة كل الظروف التي ستمكنهم من بناء النفق، وبما أن المدينة كانت محاصرة من كل الجهات، كان من الصعب تنفيذ تلك الفكرة بسهولة، لكنهم في نهاية الامر اهتدوا إلى فكرة تمكنهم من بناء ذلك النفق بسرية تامة وبشكل عملي يساعدهم على ايصال المساعدات في الوقت المناسب، وفي 22 ديسمبر 1992م تم الابتداء بحفر النفق من احد البيوت، بعد أن تم دراسة مختلف الممرات التي سيمر بها النفق دون ان تتصادم مع الأماكن التي تتواجد فيها القوات المعادية، واستمر حفر النفق حتى شهر يوليو من العالم 1993م.
لم يكن هذا النفق نفقاً عادياً، بل كان الشريان الأخير الذي يمد العاصمة سرايفو بالحياة، فمن خلاله تم ايصال الأدوية والأغذية للسكان العالقين في الحصار، ومن خلاله تم نقل المرضى والمصابين إلى المدن الأخرى لتلقي العلاج، ومر عبر هذا النفق أكثر من 16 ألف جريح ومليوني إنسان، ولم يسلم النفق من محاولة اقتحامه وتهديمه، بل تعرض الكثير من البوسنويين أثناء ذهابهم إليه إلى غارات جوية أودت بحياة الكثير منهم، وبعد سنوات الحرب وتوصل أطراف النزاع إلى اتفاقية دايتون المعمول بها حالياً في البوسنة والهرسك، تحول هذا النفق إلى مزار تاريخي يتذكر أهالي البوسنة من خلاله قصص معاناتهم وفقدهم لأحبتهم، وقصص صمودهم وانتصار قضيتهم.
وقد كان للمرأة في قصة الصمود الأسطوري هذه أعظم دور، إذ أنه كان لها بصمة جلية في هذا النفق والذي أطلق عليه لاحقا “نفق الحياة”،
فالسيدة شيدا كانت احد النساء اللاتي شهدن ويلات الحرب التي حصدت مئات الاوراح، وكانت أحد أولئك الذين يحاولن أن يساعدوا الآخرين بأي ثمن، لذا عندما عرض عليها المساهمة في بناء النفق بالتبرع ببيتها إذ أنه كان أنسب نقطة يمكن للنفق أن يبتديء منه البناء واشترطت وجودها حتى تقوم بخدمة العاملين في ذلك النفق، وبالفعل عملت شيدا على خدمة العمال الذين حفروا النفق، وكانت أحد الجنود المجهولين الذين ساهموا في فك حصار سراييفو والتقليل من معاناة المحاصرين والجرحى خلال تلك الحرب الأليمة.
وبعد مرور سنوات، انتقلت شيدا التي اصبحت تعرف بالجدة شيدا إلى مكان إقامة آخر وبقي منزلها كمتحف يرتادة آلاف الناس سنوياً من مختلف دول العالم، بقي منزلها كعلامة فاصلة في الذاكرة الإنسانية، ليخبرنا أنه من رحم ويلات الحرب تولد بطولات استثنائية، ليس بالضرورة ان يكون أبطالها من حملة السلاح، بل قد يكونوا ممن لا يتقنون سوى حمل الحب والرحمة.
يمكننا إستخلاص مئات الدروس من هذه التجربة الإنسانية، لكننا هنا نركز على الجدة شيدا التي أثبتت بأن المرأة جزء لا يتجزأ من بنية المجتمع في السلم والحرب، فشعورها بالمسؤولية هو الذي دفعها لأن تضحي ببيتها، فبطلة روايتنا هذه تحمل قلب إنسان لم تفكر بنفسها وحسب، بل فكرت بمعاناة الآخرين بدرجة أساسية، وهذا ما دفعها لان تقدم بيتها طواعية. فشيدا لم تكتف بتقديم بيتها طواعية بل أصرت واشترطت أن تكون جزءاً لا يتجزأ من تلك المهمة بالجهد المشهود.
زيارتي لهذه السيدة الأسطورية والتي تنهاهز التسعين ربيعا وليس خريفا بعثت الآمال الكبيرة بأن الدنيا لا تزال بخير وأن هناك من البشر لا يفكرون إلا بصناعة الأمل ومساعدة الآخرين.
أطالب أهلنا في البوسنة بالإعتناء بهذه البطلة فهي فقيرة حالياً فلو كانت في العالم الغربي لعملوا منها أسطورة ولنصبوا تماثيلها في الميادين الرئيسية.
ولقد حزّ في خاطري كثيرا أني وفي أثناء عملية البحث المضني عنها، لم أقابل أحداً يعرفها من جيرانها إلا النزر اليسير. دمتم في عمارة الأرض وبناء الإنسان،،،
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام