قمت مؤخراً برحلة إلى موريتانيا ( بلاد شنقيط ) حيث العلماء والشعراء والمحابر والمحاظر. هذه الرحلة هي تقليب لدفتر الذكريات حيث كنت زرت هذا البلد الكريم قبل أكثر من ٢٣ سنة في رحلة خيرية إستكشافية للإطلاع على أحوال الطوارق في منطقة الصحراء الكبرى بطلب من الراحل د. عبدالرحمن السميط يرحمه الله. وكانت رحلة مليئة بالإثارة والمتعة حيث أضطررت لقطع مسافة تزيد على ١٣٠٠ كم براً على ظهر ( هايلكس ) حتى وصلت للطوارق الذين نشر أباؤهم الإسلام في مجاهل أفريقيا وفيافي صحاريها اللاهبة والقاحلة.
وكم أحتار وتصيبني الدهشة عندما أسرد قصصاً عن موريتانيا. فمن أين أبدأ يا عيون الشعر؟ فهل أبدأ بسرد سيرة الشيخ محمد الأمين فأل الخير الشنقيطي هذا الجهبذ الذي أفنى حياته طلبا للعلم وخدمة للمسلمين؟ فأين همتنا من همته العالية وقمته السامقة؟ أم أقوم بذكر مناقب الشيخ اليافع محمد الحسن الددو الشنقيطي هذا الشاب اليافع الإسطورة حيث يتقاطر على محظرته في البادية المئات من جميع أنحاء المعمورة؟ أجد نفسي متقازماً أمام عمالقة فكر وأدب جمّ ولكنه جهد المقل.
فقد كنت أظن ان الشيخ محمد الأمين فأل الشنقيطي المولود في عام ١٨٧٦م كان مجرد شيخ علم ومدرّس للطلبة ولكن سيرته كانت مليئة بالمآثر والمعارك ومقارعة الخطوب والتصدي للغزاة المستبدين. وللمعلومية، فهو أول من نادى بتعليم المرأة قبل أكثر من مائة سنة في بيئة صعبة يتم تحجيم حقوق المرأة فيها. وكعادة أهل شنقيط حيث ينهلوا من العلم وهم صغاراً على أيدي النساء حتى سن ١٢ عام ويكونوا بهذا العمر قد حفظوا القرآن وأصول اللغة والحساب والعلوم الحياتية ثم ينطلقوا بعد ذلك لمجالس الرجال كي يتخصصوا بشتى أنواع العلوم الشرعية. فشنقيط هي محضن العلماء وموئل العظماء.
وعندما بلغ محمد الأمين فأل الخير الشنقيطي من العمر ٢٣ سنة، وكعادة أهل شنقيط، فأنهم يسيحوا في الارض استزادة في العلم ونشراً لما تحويه صدورهم من معارف فبدأ بمراكش وأنتهى بمدينة الزبير. وفيما يلي عبارة عن الخط الزمني للمحطات التي سلكها الشنقيطي في حياة مليئة بالمغامرة والشغف والتطلع لذرى المعالي. إستغرقت الرحلة ٣٣ سنة كالتالي:
شنقيط ، مراكش، الصويرة، الدار البيضاء، رباط الفتح، طنجة، مصر، جدة، مكة، جدة، رابغ، المدينة المنورة، الهند، عمان ، البحرين، الاحساء، البحرين، الكويت، الزبير، الكويت، الزبير، السماوة، حائل ، بريدة، المدينة المنورة، مكة، عُنيزة، الكويت، الزبير.
رحلات مكوكية في ظروف الحرب العالمية الاولى وسط إشتداد مؤامرات سايكس بيكو . توفي الشيخ الشنقيطي وهو ابن ٥٦ سنة قضاها كلها في طلب العلم والجهد والذود عن الحياض . ومنها آخر ١١ سنة عبارة عن تأسيس لمدرسة النجاة عام ١٩٢٠ وتثبيتها حيث اخرجت القادة العظام وهي أفضل مدرسة في عصرها وقد كانت تضاهي كبرى المدارس العالمية رغم انها كانت مدرسة إعدادية .
أما الحديث عن آلِ الددو ومآثرهم ، فيضيق المجال بذكره فهم ( دينامو ) العلم في بلد العلماء وأيقونة الشعر في بلد المليون شاعر حيث يجد الزائر لمحظرة آلِ الددو في الصحراء الموريتانية نفسه أمام ثلة من البشر لا تعني لهم الدنيا شيئا وإنما نذروا أنفسهم لحفظ القرآن وطلب العلم في إطار تسابق خيري نادر في هذا الزمان .
وأتسائل، مالذي يجعل الفنلنديين والروس وغيرهم يتركوا أماكن راحتهم ليمكثوا في محظرة آلِ الددو بالصحراء ولسنين طويلة؟ إنه العلم ومجاورة العلماء والعشق لهذه البيئة الأخّاذة والتي لا نصيب للماديات فيها.
وكجزء من الوفاء بثلة من قدامى الأصدقاء، فقد قلّبتُ موريتانيا بحثا عن أخٍ لم تلده أمي يسمى القليقم بن أحمدو فقد رافقني في رحلة الطوارق المثيرة وكم كنت فرحاً عندما لقيت هذا المفضال الأريب والشهم ذو القدح المُعلّى. فالقليقم بن أحمدو ليس كأي قليقم ( وبالمناسبة، فأن هذا الأسم متكرر في بلاد شنقيط ) فهو أيقونة وفاء ورمز عزٍ وشاعر وأديب ورسام ذو مشاعر دافقة فلا غرو أن يكون كذلك فهو نتاج هذه البيئة النادرة والعتيدة.
ومن الأمور التي آلمتني كثيرا أني لما رجعت من رحلتي للطوارق قبل ٢٣ سنة عملت عرضا مرئياً لبعض من رجال الأعمال عن ضرورة الالتفات لموريتانيا والاستثمار فيها، فكان الرد ليس سلبيا فقط وإنما متهكما. وللحق، فموريتانيا تحتاج لبذل جهود مضاعفة مع حزمة محفزات لجذب المستثمرين اليها.
الحديث عن موريتانيا لا أكاد أن أملّه فهو غاية في التشويق المختلف بعصر طغت فيه المادة فأصبحت هي مقياس العلاقات البشرية. ففي موريتانيا، دع العلاقات المادية وتصالح مع نفسك وأبدأ رحلة الغوص العظيم لسبر أغوار العلم والبلاغة والشعر بعيدا عن ضوضاء المدنية المُهلك.
دامت شنقيط محضنا للعلماء الربانيين ودام أهلها ذوي فضل وإنابة وإشعاع للعالم العربي والإسلامي.
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام