كنت أرافق الوالد رحمه الله إسبوعيا لجلب البضائع من البصرة التي كانت عامرة آنذاك بشتى صنوف التجارة وتنوع المنتجات. وبما أننا بزازون ( بائعو الأقمشة ) منذ أمد بعيد، يتوجب علينا إختيار آخر موضات وأصناف الأقمشة والحرص على تنوعها كي تكون بضاعتنا متميزة على الدوام. كما يتوجب عند شراء البضاعة نقلها الى الزبير مباشرة حيث يقع محلنا وإفراغها وترتيبها لإستقبال الزبائن في الصباح الباكر.
وفي ذات يوم خريفي من أيام عام ١٩٧٨ حدثت لنا حادثة غريبة وكان عمري وقتها ينيف على العشر سنين. فقد إنحدرنا ( لأن الزبير أعلى طوبوغرافيا من البصرة ) من غبشة ( وقت الفجر ) مع الوالد الى البصرة للتسوق كما جرت عليه العادة ثم حملنا البضاعة على ظهر شاحنة قافلين لمدينة الزبير. وقد كنت أحسن حظاً ممن سبقني من إخوتي الأكبر سناً والذين كان يتوجب عليهم حمل البضاعة على عربات الخيول. وأثناء الطريق، إحترقت البضاعة ( ولا ندري مسببات ذلك ) ولم ندر عن إحتراقها لأننا كنا في صدر الشاحنة. ثم قام مجموعة من الجنود بإيقافنا لتنبيهنا بأن البضاعة تحترق. يا للهول! وبلمح البصر رأينا ما نملك يحترق أمامنا! لقد كان حقاً منظراً مؤلماً! حاولت تهدئة الوالد والذي كان يواجه موقفاً عصيباً وكارثياً لا يحتمل لأن البضاعة كانت تمثل جُلَ ما يملك وكما يقال المال عديل الروح. تماسكنا حينها وأطفأنا النيران بواسطة التراب لإنقاذ ما تبقى من بضاعة محترقة ومهترئة. حينها قلت للوالد كلمات لا أدري كيف خرجت مني وكيف نطقت بها! قلت له أن الله سيسوق لنا الزبون ” الصامل ” الذي يشتري البضاعة برغم من احتراق أجزاء كبيرة منها فرد علي الوالد رداً مقتضباً وحزيناً فقد كان في قمة الألم الذي يعتصر فؤاده.
وصلنا للزبير وأنزلنا ما تبقى من البضاعة وأخذنا نفرز المحترقة منها كلياً عن تلك المحترقة جزئيا وذهبنا للنوم بعد يوم ماراثوني وحافل بالإحداث. وفي الصباح الباكر رجعت للمحل لأقوم بعرض البضاعة وإعادة تنسيقها وأبقيت البضاعة المحترقة في الجزء الخلفي من المحل كي لا يراها الزبائن. وعند غروب الشمس، ذهب والدي للمسجد وبقيت في المحل. وفي هذه الأثناء، مرت بالمحل زبونة لا يزال إسمها يرن في خلدي ومحفور في ذاكرتي وسألتني إن كان في المحل أي قماش أسود فذكرت لها أن لدينا قماشاً أسوداً ولكنه محترق جزئيا ( وبالمناسبة، فقد كان هذا اللون هو الجزء الأكبر من البضاعة ) فقالت أريد أن أراه. فلما رأته قالت أريد شراء جميع البضاعة. ودخلت معي للمحل لتساعدني على أداء هذه المهمة وأخذت تقص الأجزاء المحترقة من أطوال القماش في مشهد لا أستطيع تفسيره! وعندما أتى الوالد من الصلاة رآني منهمكاً في بيع البضاعة المحترقة! إنه مشهد سريالي بل ترتيب رباني لا نعرف كنهه. إستغرب الوالد جداً ولم يصدق ما يجري وكان قبيل ذهابه للصلاة مهموماً ولا يدري ما يفعل بهذه البضاعة التي أصبحت عبئاً وضيفاً ثقيلاً! دفعت الزبونة المبلغ كاملاً وذهبت ونحن في غاية الدهشة والإنبهار.
الدروس المستخلصة من هذه الحادثة كثيرة والعبر أكثر وعلى رأسها قيمة التوكل واليقين بما عند الله كما قال رسولنا الكريم ” لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً “. فالتوكل موجود في فطرة الإنسان ومغروس في أعماقه السحيقة. كبرنا بعد ذلك وأنغمسنا في الأعمال اليومية و بخضم زحمة الحياة اللاهبة. ورويداً رويداً خف التوكل ( الإ من رحم الله ) وأستبدلناه بحسابات دنيوية كثيرة ومعقدة وأصبح حساب المخاطر يطغى على طلب ما عند الله. ثم رويداً رويداً قلّت البركة وتعاظمت الحسابات الدنيوية وأصبحت فضاءآتنا مليئة بالحسابات مع إغفال الجوانب الربانية في البركة والهناء الروحي. كم أتمنى العودة لأيام الصفاء والفطرة النقية التي لم تخالطها حسابات دنيوية لم تضف لنا الإ المتاعب والألم النفسي. أضاء الله طريقكم بالمسرات وجعل اليقين بما عند الله هو رأس الأمر وعنوان الحكمة.
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام