كنا في رحلة خيرية لليابان قبل مدة وبصحبة وفد كريم، ومثل هذه الرحلات مألوفة لدى البعض من رجالات هذا البلد الكريم المعطاء، ولكن هذه الرحلة حدث فيها شيء مميز هو أقرب، بالنسبة لي، للخيال، ولولا أني عايشت الحدث بنفسي لاستصعبت حدوثه، ودعوني أروي لكم ذلك مختصرا الحديث بما تتسع له هذه الأسطر، فبعد الوصول إلى طوكيو أكملنا مسيرتنا جوا إلى هيروشيما لافتتاح وقف خيري لمسلمي هيروشيما، ومن ثم زيارة المسجد في هذه المدينة التاريخية التي كانت حديث الدنيا أبان الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حطت بنا الطائرة في مطار هيروشيما توجهنا لركوب السيارات للوصول إلى مقصدنا، فكان أول حدث لفت انتباهنا هو وجود عدد من سائقي السيارات المستأجرة الراقية في استقبالنا، وكانت هذه السيارات من أفخم وأحدث طراز، وعددها خمس سيارات مما حدا بي لتوجيه العتاب الأخوي لمنسق الرحلة بأن لم يكن هناك حاجة لذلك، ولا داع لمثل هذا الإسراف، وإن كان ظنهم أن هذا سيسعدنا ويرضينا فقد سلكوا طريقا آخر، فرد علي بهدوء بأن هذا أمر من الواجب.
من المطار توجهنا مباشرة للمسجد وكان المشوار طويلا يقارب مسافة تتجاوز الستين كيلا، وكان السائق لا ينبس ببنت شفة، وكالعادة أمضيت أنا وصاحبي الوقت في السيارة بالحديث في مواضيع مختلفة عن اليابانيين وثقافتهم وأمور عامة كثيرة غير محددة تخلو من الطابع الجدي، أحاديث لملىء الوقت وقطع الطريق.
وصل الوفد إلى المسجد، وهنا الأمر الآخر الغريب، كان في استقبالنا عدد من السيدات يرتدين اللباس الياباني التقليدي (الكومونو) حيث كن في قمة قيافتهن اليابانية، مما زاد من استغرابي والتساؤل عن كنهن، وماذا يفعلن هنا في زيارة وفد لمسجد، وقد بالغن بالترحيب والتقدير وقمن بتقديم الهدايا لجميع أفراد الوفد وبكل لطف واحترام، وظللن في أماكنهن إلى ما بعد أدائنا للصلاة، أما سائقوا السيارات الفخمة فقد مكثوا ينتظروننا في أسفل المبنى بالرغم من برودة الجو وقتذاك.
بعد إتمام مراسم الافتتاح وزيارة المسجد، والتي استغرقت قرابة الساعتين، ذهب بنا سائقوا السيارات لأفخم مطعم في المدينة، وأبوا إلا أن ينتظروننا في الخارج، أما النساء اليابانيات فقد اختفين ولا نعلم أين ذهبن، تناولنا وجبة الغداء الفاخرة، والتي أخذنا فيها وقتا طويلا مستمتعين ما بين حسن الصحبة وطيب الطعام وجمال المنظر المطل على البحر الذي كان خلابا مما لم يشعرنا بمرور الوقت الجميل، بعد هذا قفلنا راجعين مع السائقين للمطار وبنفس الطريق الطويل، وهنا الأمر الغريب الثالث، فعند وصولنا للمطار تفاجئنا بوجود النساء اليابانيات اللواتي كن في استقبالنا في المسجد مرة أخرى، وقد أتين للمطار لوداعنا وقد جلبن معهن هدية ثمينة لكل فرد من أفراد الوفد، هذا الأمر ليس بالمعتاد مطلقا، وأثار استغرابا لما يحدث بين جميع أفراد الوفد، وبدأنا نتساءل من هؤلاء النسوة، ولماذا يفعلن ذلك، خصوصا وأنهن غير مسلمات، ولما رأى صاحبي علامات التعجب على أفراد الوفد صدمنا بمفاجئة من العيار الثقيل حين قال: يا سادة؛ سائقوا سيارات الفخمة هم رؤساء أكبر شركات هيروشيما أتوا لكم بسياراتهم الخاصة…! أما الصدمة الأخرى فالنساء اللواتي أحطن بنا في المسجد، ومن ثم في المطار لم يكن سوى زوجاتهم…! يا الهي…! دارت الدنيا بنا، وشعرنا بخجل أحسسنا معه بعدم وجود قطرة دم في وجوهنا من هذا الموقف الذي لم نفهم كنهه، مع وجود الحرج الشديد في كيفية شكرهم ومكافأتهم، وراودتنا مشاعر الحيرة أمام سلوكيات، فاقت، بل لم تكن لتخطر لنا على بال، مع العديد من الأسئلة التي دارت في خلدنا والتي توجهنا بها إلى منسق الرحلة: ما الذي حمل رؤساء كبرى شركات هيروشيما أن يقوموا بهذا الصنيع، حيث وهبوا لنا وقت عطلتهم الأسبوعية، حيث كان اليوم يوم أحد، وأتوا بزوجاتهم، وتحملوا كل هذه المتاعب من قيادة السيارات، ومشاق الطريق، والانتظار، وعدم مشاركتنا الطعام احتراما لنا، بل ومن زيادة أدبهم وكياستهم لم يعطوا أي إشارة، أو حتى إيمائه بسيطة لعلنا ننتبه، ومن ثم نعطيهم من الاهتمام والقيام بالواجب ما يستحقونه، قال لنا المنسق بالحرف الواحد: سمع أهل هيروشيما بقدومكم من السعودية لهدف نبيل، بالرغم أنهم ليسوا مسلمين، فآلوا على أنفسهم إلا أن يقدموا لكم عربون الوفاء هذا…!!!
إنها حقاً أخلاق بلاد الواق واق!!!!!
أحدث التعليقات
أحمد الرماح | أبو الأيتام
عدنان بن محمد الفــدّا | أبو الأيتام
أحمد الرماح | ماذا يعني التميز بالعمل الخيري؟
سعود العثمان | أبا راشد قد أتعبت من بعدك
عبدالمنعم الدوسري | بدايات إطعام